أنوار حدوفان – طالب باحث
أية مقاربة لاندماج المهاجرين بالمغرب؟ كيف يرى المهاجر الإفريقي اليوم على الخصوص آفاق الاندماج في المجتمع المغربي المعاصر؟ ما هي الخصوصية التي تجذب المهاجر غير الشرعي على الاستقرار بالمغرب عوض المجازفة بركوب قوارب الموت من جديد؟
يشكل الموقع الاستراتيجي للمغرب باعتباره بوابة إفريقيا نحو أوروبا إحدى الميزات التي ينفرد بها عن غيره من دول الجوار في شمال القارة. مما يضفي على هذا الموقع الجغرافي ميزة أخرى هي جذب الفرص الاستثمارية. جعلت المغرب يحظى بثقة شركات عالمية من أجل أن يكون منصة لها. كما أنه أي الموقع الجغرافي المتميز قد استهوى المهاجرين غير النظاميين الباحثين عن ملاد آمن للوصول إلى أوروبا.
يعيش المغرب طفرة كبيرة في المجال الاقتصادي على الخصوص، بفضل المشاريع الحيوية ذات المفعول و الأثر الكبيربين على المستوى الاجتماعي و الاقتصادي للبلاد. كما أن السياسة التي نهجها المغرب على المستوى الديبلوماسي بالعودة إلى عرين الاتحاد الإفريقي في يوليو 2016 و منح المهاجرين حق الإقامة و الحصول على الوثائق الثبوتية عبر خطاب الملك سنة 2013، جعلته ينضم إلى البلدان الفتية في مجال استقبال المهاجرين.
يعد المغرب منذ القدم موطأ للعلم ومركزا للتعلم بالنسبة للوافدين من دول الجوار أو دول الغرب الإفريقي. و هذا مرده للقوة التي كان و لا يزال يتمتع بها المغرب باعتراف الجميع على الصعيد الأكاديمي، إذ توفر الجامعات المغربية اليوم و الأمس مقاعدا بيداغوجية بتخصصات مختلفة سواء علمية محضة أو عسكرية أو في العلوم الاجتماعية و الإنسانية تجسد التعاون جنوب جنوب على المستوى الأمني و العسكري و الأكاديمي مع دول إفريقية شقيقة و صديقة تربطها بالمغرب علاقات وطيدة.
- مسار الهجرة إلى أوروبا عبر المغرب بين الثابت و المتغير
إذا رجعنا إلى مسار الهجرة بين المغرب و الدول الإفريقية، حيث كان يعتبر المغرب إلى زمن قريب كنقطة عبور للوصول إلى الضفة الأخرى. فيعانى المهاجر أثناء سلوك هذا المسار بالذات من تسلط تاجر الموت إن صح التعبير فيكون تحت رحمته ينتظر استعمال قوارب الموت بفارغ الصبر في انتظار قوارب النجاة آتية من الضفة الأخرى… كما يكون غارقا في أحلام الهجرة و ما سيقدمه له المستقبل من آياد ممدودة كانت في بلده من المستحيلات بسبب الأفق المسدود و انعدام مجالات للتفوق و النجاح.
يمكن اعتبار أن سلوك مسار الهجرة سيخضع لمنطق ازدواجية عوامل الطرد و الجذب. إذ يمكن إجمالا القول أن عوامل الطرد قد تكون هي عوامل اقتصادية بالدرجة الأولى كالفقر و البطالة بالإضافة إلى عوامل أخرى منها العوامل الطبيعية (جفاف و مجاعة و تغيرات مناخية …)
أو سياسية (انقلاب عسكري أو حروب أهلية). أما عوامل الجذب التي تفرض نفسها بقوة ؛ منها على الخصوص الفرص الممكنة في مجال التشغيل و الحصول على أجر مضاعف بسبب العملة الصعبة الأورو التي لا توازي العملة المحلية لدى جل الدول الإفريقية بل تفوقها أضعاف مضاعفة.
ما قد يطرح بقوة أين نصنف اليوم هجرة الأفارقة جنوب الصحراء إلى المغرب ؟ هل ضمن الهجرة الوافدة و التي تتمثل في الهجرة الاختيارية بدافع فردي أم هجرة فرضتها ظروف لم تكن تدخل ضمن حسابات المهاجر نفسه من قبل ؟
وصول المهاجر باعتباره الفاعل الاجتماعي الفرد إلى المغرب و اتخاذ قرار الاستقرار بدل قرار الهجرة نحو أوروبا فرضته ظروف ذاتية و أخرى موضوعية. فالأسباب الذاتية قد تكون الأقرب إلى وجود ما يشبه بتجمعات سكانية من دول إفريقية جنوب الصحراء، قد تشكلت لتقوي الروابط الاجتماعية بين ساكنة من نفس الجنسيات و عززت التضامن بين أفراد هذه الجاليات. كما يمكن أن يكون السبب العدول عن القرار بالأساس ناتج لأسباب موضوعية فالسياسات التي تنهجها دول جنوب أوروبا التي تمنع تدفق المهاجرين بانتهاج سياسة الحدود و الجدار، عبر تقديم مساعدات تقنية و لوجستيكية و أمنية لدول شمال إفريقيا، قد يكون هذا المشكل محط ابتزاز من أحد الطرفين، من أجل الحد من الحركة الهجروية من دول الجنوب إلى دول الشمال. إذ أصبحت تلعب دول شمال إفريقيا دركا ضد الهجرة نحو أوروبا.
نعود إلى تصور الفيلسوف البريطاني جيمي بنثام لسجن يخضع فيه جميع السجناء إلى مجال رؤية الحارس دون أن يعلموا ما إذا كانت الملاحظة تتطور في جميع الأوقات. نحن اليوم نعيش في سجن panopticon الشهير إذ ” كل ما يتحرك ” يخضع للرقابة حيث تجمع وسائل التواصل الاجتماعي البيانات و تراقب أقصى تحرك نقوم به، و هذه الإحصائيات المتاحة لفئة معينة سمحت لمنظمة الأمم المتحدة للتربية و العلوم و الثقافة التدقيق بعض الشيء في تدفقات المهاجرين الذين قرروا الاستقرار بدول نامية كالمغرب نظرا لعدم توفر بيانات رسمية كما جاء في التقرير. فقد رسمت الدول الغربية الحدود و سخرت إن صح التعبير دول الجنوب لتلعب دور الدركي الذي يمنع المهاجر من تجاوزها مما يولد لديه الاقصاء، و هذا ما يفضي إلى الثورة على ما هو قائم و محاولة تجاوزه و لو بطرق غير شرعية لمحاولة الوصول إلى الضفة الأخرى.
لقد وصلنا لمرحلة السيولة حيث تبدو المجتمعات الحديثة مائعة إلى حد ما. و هذه الأطروحة تتجاوز الرؤية الحديثة المبكرة لكل من كارل ماركس و فريدريك أنجل و العبارة الشهيرة في البيان الشيوعي ” كل ما هو صلب يذوب و يختفي “. ثمة علامتان فارقتان في هذا التحول الجديد : أولا تذوب جميع الأشكال الاجتماعية بسرعة تفوق السرعة التي تتشكل بها الأشكال الجديدة، ثانيا تنفصل السلطة و السياسة ؛ و عليه فإن الحدود غير الثابتة هي مصدر قلق كبير للجميع.
بسبب مراقبة الحدود يجد المهاجر نفسه مجبرا على البحث عن عمل في دولة العبور ليتشكل لديه هاجس أو كابوس العودة إلى بلده الأصلي، مما يجبره على التكيف مع المحيط الجديد و الإقامة خوفا من أن يكون محط سخرية من طرف محيطه إن قرر العودة خاوي الوفاض. فالبعض يوهم أسرته أنه وصل إلى الضفة الأخرى و يرسل إليهم بعض المال في فترات متفرقة من السنة. و هناك من يبحث بجميع السبل لشق طريق الوصول إلى أوروبا فيعمل في أي عمل كان، و خصوصا المهن الشاقة، و التي تطلب مجهودا عضليا مضاعفا من أجل كسب المال لشراء تذكرة العبور على متن قارب الموت.
- سؤال اندماج المهاجر في المجتمع المغربي
إن كان تعريف المهاجر(9) ” الفرد الذي يقيم في بلد أجنبي لمدة تتجاوز عاما واحدا بغض النظر عن إذا كانت الأسباب الدافعة للهجرة طوعية أو غير طوعية، وما إذا كانت السبل المستخدمة للهجرة اعتيادية أو غير اعتيادية “. فإن التساؤل الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة المتمثل في كيفية اندماج المهاجر بدول العبور. إن مصطلح الاندماج أخذ يفرض نفسه بقوة في الكتابات في العلوم الاجتماعية بصيغ مختلفة كالاندماج الاقتصادي أو الاندماج السوسيومجالي أو الاندماج الثقافي. ربما المهاجر الذي قرر الاستقرار بالمغرب قد أحس بوجود قواسم مشتركة إفريقية تشعره بالدفء الإنساني و تمنح الثقة في العنصر البشري كقاطرة للتنمية ، و هو بذلك يفرض وجوده أو تفرض هي وجودها أي المهاجرة، بالاشتغال في مجالات كانت حكرا على المغاربة فقط أو يمكن أن يتخصص في أعمال حديثة الظهور بالمغرب كالحلاقة على الطريقة الإفريقية بالنسبة للنساء أو بيع الملابس الإفريقية.
فتأنيث الهجرة مصطلح جاء في سياق الأبحاث الحديثة و التي أحدثت قطيعة مع الأبحاث الكلاسيكية. إذ أظهرت هذه الخلاصات في الولايات المتحدة الأمريكية أن النساء رابحات في عملية الهجرة عكس الرجال الذين يخسرون وضعهم الاجتماعي لأنهم أقل اندماجا من النساء، كما تفضل المراءة البقاء في بلد الاستقبال مقابل الرجل الذي تراوده فكرة العودة إلى بلده الأصلي. و هذا مرده بالأساس أن المرأة تندمج بسرعة بل تصبح حاملة لقيم و معايير الثقافة الجديدة.
ينعت المهاجر بكلمة مثل صديقي ” mon ami ” أو أخي ” mon frère ” في تعامله اليومي مع المغاربة. و هذا الاسم له من المحمولة الثقافية الشيء الكثير فالأخوة تدل على قرابة الدم أما الصداقة فهي أسمى الروابط الاجتماعية و هي نتيجة قوة و صلابة العلاقات الاجتماعية و التي تؤدي إلى انسيابية في التعامل مع الآخر، قد تتخذ بعدا أكبر إن تحدثنا عن عمق التآزر و التآخي من منظور ديني. و هذا ما تجده عند المغاربة من تقديم المساعدة للمحتاج من دول جنوب الصحراء باعتبارهم ضيفا وجب تكريمه إما بالنقد و هو الحال عند التوقف في إشارات المرور الضوئية أو بالطعام كقرابة للملح و عربون للأخوة و للمحبة. بالرغم من التغيرات التي طرأت على المجتمعات الإنسانية مع ظهور النزعة الفردية و النفور من كل ما هو جماعي فإن الطعام يستمر مؤسسا للجماعي، و قد تبين هذا خلال الزلزال الآخير حيث كانت جل المساعدات التضامنية القادمة من كل مدينة و بلدة بالمغرب هي غذائية بالأساس إذ يمكن أن نستنتج أن المخالطة الاجتماعية يمكن أن تكون على مائدة واحدة.
بل حتى سارت بعض الأسواق التجارية ذات تسمية من دول إفريقية معروفة كسوق السينغال. حيث اندمج المهاجر مع الحياة المجتمعية بالمغرب التي يطبعها في المدن الصغيرة و السياحية الرتابة و يتوقف فيها الزمن إن صح التعبير و أخرى حيوية تتميز بدينامية كبيرة، كتلك الملازمة للمجتمع الغربي الصناعي المحض. حيث في هذه المدن يكون العمل مقدسا كما تكون الفرص المتاحة للتشغيل متعددة مما يسمح للمهاجر أن يجد له مقعدا في سوق الشغل يثبت من خلاله كفاءته و فرض ذاته انتصارا لشخصه أولا ثم للمجتمع المختلف عنه ثقافيا ثانيا.
- الولوج إلى الحق في التعليم و التكوين
خلص الاجتماع الحكومي الدولي المنعقد بمراكش بتاريخ 10 دجنبر سنة 2018 إلى اتفاق عالمي من أجل الهجرة الآمنة و المنظمة و النظامية، و الذي يهدف إلى تحويل السياسات إلى واقع عبر تنزيل أمثل للهدف الرابع من التنمية المستدامة، فمن خلال الهدف 15 الذي مفاده ” نلتزم بالعمل على تمكين جميع المهاجرين، أيا كان وضعهم من حيث الهجرة، ممارسة حقوقهم التي تدخل ضمن حقوق الإنسان من خلال الوصول الآمن إلى الخدمات الأساسية “ ومنه الإجراء (و) الذي يبتغي توفير تعليم جيد على نحو يشمل جميع الأطفال والشباب المهاجرين وينصفهم. فقد ألزمت هذا الاتفاق الدول الموقعة عليه على تحسين ولوج المهاجرين إلى الأنظمة التعليمية عبر سياسات تدمجهم و تمحنهم إحدى الحقوق الأساسية أي الحق في التعليم. إذا رجعنا إلى حالة المغرب فالبرامج و المناهج الدراسية موحدة على الجميع على الناطقين بالعربية و غير الناطقين بها. كأن لهم النسق نفسه للتعلم. فالمقررات الدراسية لا تأخذ بعين الاعتبار الأطفال القادمين من دول أجنبية. كما أن تعلم اللغة العربية في مراكز خاصة ممولة من الدولة غير متاح ما عدا إن كان الدعم منزليا بواسطة أستاذ متخصص في اللغة.
فرغم ما تحاول الدولة من إبراز وجود مكون جديد في المجتمع المغربي أي المكون الإفريقي عبر كتابة أسماء مثل ” مامادو” أو ” فاطمتو” في الكتب المدرسية من خلال الوضعيات المختلفة في بعض المواد كاللغة العربية و التربية الإسلامية وغيرهما من المواد الدراسية أخرى. إلا أنه يبقى هذا الإجراء محتشما مقارنة بدول رائدة في مجال إتاحة برامج تعليمية خاصة للمهاجرين. تسمح لهم بتوسيع الأفق نحو التفوق الدراسي.
يتطلب فهم واقع الهجرة و تأثيرها على معدلات التحصيل الدراسي إجراء مقارنة بين المهاجرين و غير المهاجرين، مع الإقرار بأن الاختلافات تتعدى مجرد قرار الهجرة. فوضع الهجرة يؤثر على تعليم المهاجر و هذا مرده إلى أن المهاجرين في الغالب يقطنون في مناطق أكثر فقرا توجد فيها مدارس متدنية النوعية، مما يؤدي بشكل أو بآخر إلى تدني تحصيلهم الدراسي و اكتسابهم للمهارات.
- الهجرة الإفريقية بالمغرب و سوق الشغل
كما ما ورد التقرير السالف الذكر، حول وجود تدفقات هجروية يصعب الحصول على بيانات إحصائية بخصوصها. تهم المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء الذين صار المغرب بالنسبة لهم بلد إقامة مؤقتة أو شبه دائمة. و من خلال تصفح الإحصائيات الواردة في التقرير الخاص بالمجلس الاجتماعي و الاقتصادي و البيئي حول الرأي ” الاندماج الإقليمي للمغرب في إفريقيا ” الذي صدر سنة 2020 فقد تم تسوية وضعية أكثر من 50000 مهاجر غير نظامي منذ 2014. في حين قدرت الأمم المتحدة عدد المهاجرين في المغرب حوالي 101.200 أي حوالي 0,3 في المئة من عدد السكان (برسم سنة 2017). أما صندوق الضمان الاجتماعي فيقدم معطيات تخص العدد الإجمالي للعمال المهاجرين بالمغرب أي ما يناهز 26.283 شخصا، منهم ما يقارب 4958 سينغاليون و964 التونسيون و899 إيفواريون ثم 770 جزائريون. و كشفت المعطيات في التقرير السالف الذكر أن المهاجرين الأفارقة يمتهنون حرفا تدخل ضمن قطاع ترحيل الخدمات و على الخصوص مراكز النداء و هم من جنسيات سينغالية و كونغولية و إيفوارية و كاميرونية.
في حين أن المهاجرين الأوربيين والأتراك و الصينيين يشغلون المناصب العليا في غالب الظن داخل شركات متعددة الجنسيات تنتمي لبلدهم الأصلي. و هذا بحد ذاته يرسخ الصورة النمطية عن المهاجر الإفريقي المحدود الكفاءة و يزيد من الهوة بينه و بين مهاجر من جنسيات دول متقدمة في مجال التفوق المهني. كما يوضح من جانب آخر أن المهاجر الإفريقي يشتغل وفق إمكانياته العلمية والمهارية و بذلك لا يعتبر منافسا في سوق الشغل للساكنة المحلية أو الوافدة من جنسيات قادمة من قارات أخرى.
- الفاعل الاجتماعي الهامشي: التنظيم وسوء التنظيم الاجتماعيين
في عالم اللايقين اليوم يحظى موضوع الهجرة بأهمية بالغة نظرا لما تفرضه الظرفية الراهنة من تتبع للظاهرة الاجتماعية في جزيئاتها الصغيرة من أجل استنباط الحكم أو إن قلنا قواعد العمل التي قد تعطي في بعض الأحيان رؤية جديدة و مقاربة للموضوع في إطار يوازي روح العصر الحالي. و الذي يدعو الجميع لإعلاء القيم الكونية كالتسامح و العيش المشترك و تقبل الآخر و الثقافات المتعددة و حرية المعتقد…
إن المهاجر اليوم ملزم بمواجهة تحديات كبرى كالعنصرية و الإقصاء المجتمعي و غيرها من أساليب المواجهة إن صح التعبير التي تتشبع بها فئات لا بأس بها من مجتمعات دول الاستقبال. فهل يمكن اختزال الاندماج بصفة عامة في الاندماج الاقتصادي من قبيل الحصول على عمل قار أو ممارسة عمل مدر للدخل سواء في إطار عمل نظامي أو ضمن القطاع غير المهيكل (secteur informel)؟
لا يمكن إهمال جوانب أخرى للاندماج كالجانب الاجتماعي و السياسي و الثقافي و الاجتماعي ، فقد استطاع المهاجر جلب المال لدفع التزاماته اليومية و تحقيق ذاته كذلك عبر تلبية حاجياته الإنسانية (19) أولا من أكل وشرب وسكن، وهي تعتبر من الحاجيات الفيزيولوجية (20) حسب هرم Maslow. فإن حَقَّقَ احتياجا من الاحتياجات بهدف التحفيز يمر إلى احتياج آخر و هكذا دواليك إلى أن يصل إلى رأس الهرم. إذ يعمل الفاعل الاجتماعي على تلبية احتياج الأمان (Sécurité) و بعده الاحتياجات الاجتماعية “Besoin de soutien, d’appartenance et d’amour” عبر العطاء و الأخذ من ناحية الاهتمام إلى أن يحقق حاجة تقدير الذات ” l’estime de soi ” و التي تنقسم إلى قسمين : تقدير الفاعل لذاته ثم تقديرها من طرف الآخرين فحب الذات يولد من الحب الذي يمنحنا إياه الآخرون (21) . و في أعلى الهرم يتموقع الاحتياج الأخير و هو تحقيق الذات. و التي يمكن تعريفها (22) ” بالقدرة على توظيف أقصى الإمكانات الذاتية للوصول إلى ما نصبو الوصول إليه سلفا ” كما عرفها Abravanel 1986.
فمن الواجب على دولة العبور التي أصبحت دولة إقامة دائمة أو شبه دائمة توفير ما هو أساسي أو الحد الأدنى من الحقوق التي تحفظ كرامة المهاجر كالاستفادة من السكن اللائق و الحق في التعليم و في الصحة و على الخصوص الحماية الاجتماعية الذي يعتبر موضوع الساعة بالمغرب.
وبالتالي يمكن القول أن المهاجر فعلا قد تمتع بالحد الأدنى من ظروف الإقامة فلا تهم تلك الأوراق الثبوتية (الحق في الجنسية و الهوية) التي يحتاجها فعلا لتجديد أوراق الإقامة أو هو ملزم للإدلاء بها عن الحاجة بقدر ما هو أساسي التمتع بالحقوق الأخرى ذات الأثر على المستوى الشخصي و الأسري و المجتمعي ككل.
إن كان الاندماج نقيضه هو الاندفاع نحو ممارسات شاذة غير مقبولة مجتمعيا تعزز سوء التنظيم الاجتماعي، و هذا راجع بالأساس إلى الإحساس بالدونية أو الإقصاء المجتمعي أو العنصرية المبتذلة منها اللجوء إلى الجريمة المنظمة أو العابرة للقارات كالجريمة الالكترونية من تزوير للبطائق الالكترونية أو الابتزاز أو العنف من أجل السرقة. فممارسة العنف في بيئة يجب أن تكون في الأصل حاضنة للمهاجر ذو الثقافتين و لحاجياته، مما يثير الاستفزاز المعرفي كما يطرح أسئلة أخرى حول ممارسة العنف من باب الثورة على الكائن الهامشي (23) الذي خلقته الهجرة في وسط عيش مثقل بقيم مختلفة جديدة و غريبة على المهاجر.
كما ورد في كتاب ” مدرسة شيكاغو و نشأة سوسيولوجيا التحضر و الهجرة ” للدكتور عبد الرحمان المالكي فإن « الضبط الاجتماعي » contrôle social يفرض على المهاجر إعادة ترتيب أولوياته والانزياح أكثر إلى « إعادة التنظيم الاجتماعي» بعد عملية « سوء التنظيم الاجتماعي». فرغم أن الكتاب يتحدث عن الفلاح البولوني و مسألة اندماجه في المجتمع الأمريكي، فإن الكاتب قد أشار أن هذه السيرورة التي من خلالها و بها يتم العودة إلى السَّواءِ أي التنظيم l’organisation لا تخص بعض المجتمعات بعينها بل نجدها في كل مكان وزمان حسب طوماس وزنانيكي.
فالهجرة التي تأتي نتيجة سوء التنظيم الاجتماعي تفضي أيضا إلى مزيد من سوء التنظيم الاجتماعي. و هو الحال هنا في حالة المهاجر الإفريقي الذي هرب في الأغلب الأحيان من الحروب الأهلية أو الاضطرابات السياسي أو الظروف الطبيعية القاهرة التي تفرض عليه النزوح، حيث صار المجال الذي يقطن فيه طاردا، وكما تفككت الروابط الأسرية في موطنه الأصلي، فيصعب عليه الانصهار داخل المجتمع المستقبل لأنه يعتبر مكون غريب يود في غالب الأحيان أن ينزاح إلى الهامشية و أن يبقى فاعلا لامرئيا (Invisible) مخفيا.
هذا الغريب (L’étranger) يقع في مرتبة التماثيل الهشة يمكن إحراق شبح العالم و هو يتمزق (24) الذي يواجه بإحساس الروسينتيما (le ressentiment) لأنه تحديدا غير مألوف و لذا يصعب التنبؤ بما سيفعل يثير الشكوك. إنه تجسيد حي و ملموس لسيولة العالم التي هي موضع استياء و خوف.
- خاتمة
تحدثنا في هذه المقالة عن مهاجرين فرضتهم الإمكانيات المتاحة على دول العبور و التي تحولت إلى بلدان استقبال. فبذلك نعالج ظاهرة اجتماعية ظهرت إلى الوجود نتيجة هجرة غير منتقاة. فالسؤال الجوهري ما هي الآليات التي ستحدثها الدولة المغربية في حالة وجود هجرة منتقاة لاندماج المهاجرين ؟ و ما هي الآثار الاجتماعية لظهور الجيل الأول من المهاجرين الذين تمت تسوية وضعيتهم القانون منذ 2014؟


