مشروع المدرسة الرائدة: المأزق المنهاجي وسؤال المشروعية

المهدي أبو العلا

بعد تكليف السيد شكيب بنموسى بتسيير وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة في حكومة السيد أخنوش الأولى (دجنبر 2021)، أطلقت الوزارة مشاورات حول الإصلاح في شهري ماي ويونيو 2022 خلصت إلى نتيجة “عبقرية” مفادها أن “محور الإصلاح هو المثلث: تلميذ(ة) –أستاذ(ة) – مدرسة” (وكأن الوزارة تكتشف لأول مرة بأنها معنية بهذا المثلث وليس بشيء آخر). انبثقت عن هذه المشاورات خارطة الطريق 22 – 26 التي حلت مرجعا مكان القانون الإطار. ولأجرأة هذه الخريطة، شرعت الوزارة في تنزيل مشروع المدرسة الرائدة ابتداء من الموسم الدراسي 22 – 23 بدون إعطاء الفرصة لمنهاج يوليوز 2021 لإكمال دورته، علما أن هذا المنهاج انطلق من المسوغات نفسها للمدرسة الرائدة (ضعف تحصيل التلاميذ في اللغات والرياضيات).
انطلق المشروع بمنهجية تؤكد أن ثنائية “الاستعجال والارتجال” ما زالت تؤطر السياسة التعليمية. نحن الآن في السنة الرابعة للمشروع، ومازالت أخطاء البداية مستمرة (عدة متجددة باستمرار، تأخر الدروس، أخطاء كثيرة، تلاميذ بدون كراسات، …)، وإذا استثنينا الشق المادي (تأهيل الفضاء وتجهيزه) في هذا المشروع، فإن تدبير الشق البيداغوجي وضع الوزارة في مأزق منهاجي جعل المنظومة تعود إلى ما قبل الميثاق الوطني للتربية والتكوين الأمر الذي يقودنا إلى طرح سؤال حول مدى مشروعية هذا “الإصلاح” أصلا؟
1. المأزق المنهاجي لمشروع المدرسة الرائدة
نحن في السنة الرابعة للمشروع، والوزارة لم تصدر بعد وثيقة المنهاج الدراسي المؤطر لمشروع الريادة رغم إنتاج كتب مدرسية في المواد الأداتية (فرنسية -عربية – رياضيات). وتأليف الكتب بدون منهاج دراسي كمن يضع العربة أمام الحصان، وهو ما يدل على أن العقل المدبر لهذا المشروع يجهل التراكمات الحاصلة على مستوى المناهج على الأقل من الكتاب الأبيض إلى منهاج يوليوز 2021. هذه التراكمات التي حسمت مراحل إنتاج الكتاب المدرسي، والتي تنطلق من منهاج دراسي مصادق عليه، ودفتر تحملات باعتبارهما وثقتين موجهتين للمؤلفين (وإن كان فريق إعداد الوثيقتين)، وأداتين للتقويم (لجان المصادقة والباحثون التربويون).
الآن تعيش الوزارة مأزقا حقيقيا: قامت بتأليف كتب مدرسية موحدة بدون منهاج دراسي مصادق عليه، هذا المنهاج الذي لا يمكن إعداده من طرف مديرية المناهج – بقوة القانون الإطار- إلا بعد إعداد الإطار المرجعي للمنهاج ودلائل مرجعية للبرامج. وقد منح القانون الإطار في المادة 28 هذه المهمة للجنة الدائمة لتقييم وملاءمة المناهج والبرامج، وكما نعلم أن هذه اللجنة تشكلت سنة 2024، ومنحها القانون أجل 3 سنوات لإنهاء أشغالها (2027 آخر أجل لتوفير الإطار المرجعي للمناهج والدلائل المرجعية للبرامج)، ثم تحيل الإطار المرجعي والدلائل على المجلس الأعلى للتربية والتكوين لإبداء الرأي قبل المصادقة عليها من طرف اللجنة الوطنية لتتبع ومواكبة إصلاح منظومة التربية والتكوين (المادة 57 من القانون الإطار). بعدها تقوم الوزارة بإعداد وثيقة المنهاج. وأخيرا يتم تأليف الكتب. إنها مسطرة محددة بنصوص القانون الإطار الذي تم تجاوزه والقفز عليه.
وأمام هذا الفراغ المنهاجي، لا يجد الباحث أمامه سوى عروض “بوير بوانت” متغيرة من سنة لأخرى، بل أحيانا من تكوين لآخر. وصارت هذه العروض وثيقة “مرجعية” بالإضافة إلى التعليمات الشفوية. وبالعودة إلى هذه العروض نجدها لجأت إلى الترقيع بدون بوصلة تحدد المبادئ والاختيارات والاعتبارات البيداغوجية لهذا المشروع فتارة نجدها تعتمد مبادئ وموجهات منهاج 2021، وتارة أخرى نجدها تعتمد المنهاج الدولي (برنامج الابتدائي P.P) وهو ما ضرب في الصميم عدة مبادئ حرص منهاج 2021 على التأسيس لها (التكامل، الانغماس اللغوي، الانسجام، …) وعلى سبيل المثال لا الحصر لتصرف المشروع بدون موجب حق نذكر:
– مدة الوحدة 6 أسابيع في اللغة العربية، 5 أسابيع في الرياضيات مثال على عدم الانسجام، وبالنسبة لباقي المواد غير المعنية بمشروع الريادة (اجتماعيات، تربية إسلامية، …) مدة وحداتها 5 أسابيع.
– تعويض المجالات الواردة في منهاج 2021 والتي كانت منسجمة بين اللغات الثلاثة (عربية فرنسية وأمازيغية) بمجالات تبدو منسجمة على مستوى العناوين لكن متباعدة على مستوى المضامين؛
– إضافة غلاف زمني للغة العربية ما بين 30 دقيقة (في السنتين 3 و4) وساعة كاملة (في السنتين 5 و6)، ولا ندري من أين أخذ المشروع هذا الغلاف الزمني؟ وهل لفريق الريادة الحق في الاعتداء على اختصاص اللجنة الدائمة؟ أليس هذا فتح الباب للمنهاج الضمني؟
– ضرب مبدأ الانغماس اللغوي بالسماح لأستاذة اللغة الفرنسية باعتماد اللغة العربية والدارجة عمليا لشرح كلمات وعبارات باللغة الفرنسية؛
– وفي إعداديات الريادة، تم التصرف في حصص مادة التربية الإسلامية ضدا على منهاج هذه المادة ورغم كونها غير معنية “بالنموذج البيداغوجي” للمدرسة الرائدة (من درس يقدم في حصتين إلى درس في حصة واحدة بالنسبة للقسط والحكمة والاقتداء والعقيدة).
خلاصة القول، إن وزارة التربية الوطنية:
– سطت على اختصاص اللجنة الدائمة لتقييم ومراجعة المناهج والبرامج وكأن الوزارة تعطي الشرعية للمنهاج الضمني الذي تسعى هيأة التفتيش التربوي إلى محاربته في الفصول الدراسية.
– ألفت كتبا مدرسية موحدة في اللغتين العربية والفرنسية وفي الرياضيات في غياب منهاج دراسي؛
وعليه فالوزارة أدخلت المنظومة التربوية في مأزق منهاجي يقودنا إلى طرح سؤال مشروعية “مدارس الريادة”؟
ثانيا: مشروع المدرسة الرائدة وسؤال المشروعية
تقتضي الإجابة عن سؤال المشروعية وضع مشروع المدرسة الرائدة في سيرورة الإصلاح، ومدى احترامه للقانون الإطار الذي صار موجها لأي إصلاح؟ وما حالة الاستعجال التي تقضي بوأد مشروع في بدايته؟

1. 1 سياق تبني مشروع المدارس الرائدة:
 السياق الأول: دخول القانون الإطار 17 – 51 حيز التنفيذ بصدور الظهير الشريف رقم 113. 19. 1 بتاريخ 9 غشت 2019 والمنصوص عليه في الجريدة الرسمية عدد 6850 بتاريخ 19 غشت 2019. وقد أوكل هذا القانون مهمة مراجعة المناهج والبرامج إلى لجنة دائمة حسب المادتين 28 و29 “تشكيل اللجنة الدائمة لتقييم وملاءمة المناهج والبرامج”، كما حدد مدة اشتغالها (ثلاث سنوات) والمنتج المنتظر منها (إطار مرجعي للمناهج ودلائل مرجعية للبرامج)، وطريقة المصادقة عليها (المادة 57). وذلك لتفادي مزاجية السياسيين الذين تعاقبوا على تدبير قطاع التعليم (مزاجية السيدة لعبيدة في تبني بيداغوجية الإدماج ومزاجية السيد الوفا في إلغائها). وكان من المفروض احترام هذا القانون لضمان الاستقرار البيداغوجي للمنظومة التربوية المنهكة بسياسة الاستعجال والارتجال. لكن للأسف سنعيش مرة مزاجية السيد بنموسى الذي جاء بمشروع المدرسة الرائدة لوأد مشروع بيداغوجي بدأ بالكاد يجد موقعه في المدرسة الابتدائية “منهاج يوليوز 2021″، ولم يمنح الفرصة لاستكمال دورته.
وفي نفس السياق، أي سياق القانون الإطار خصوصا المادة 2 و4 المتعلقتين بالإنصاف وتكافؤ الفرص والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان ذات الصلة بالحق في التعليم، فإن المشروع استهدف المدرسة العمومية فقط. فإذا كان استثناء القطاع الخصوصي على مستوى تأهيل الفضاء والتخصص أمرا منطقيا، فإن تمييز هذا القطاع عن نظيره العمومي في الشق البيداغوجي تمييز واضح وفاضح لسياسة طبقية كانت مبطنة وصارت مكشوفة.
 السياق الثاني: تم تبني مشروع المدرسة الرائدة في سياق تنزيل “منهاج يوليوز 2021 ” (بعد جائحة كورونا انطلقت التكوينات حول منهاج 2021 بالموازاة مع تنزيل مشروع المدرسة الرائدة؟؟؟) هذه الوثيقة المنهاجية أنتجتها مديرية المناهج في تدرج من مستوى لآخر ابتداء من سنة 2015، انطلق المنهاج من مادة القراءة في البداية قبل مراجعة مكونات اللغة العربية كلها. وبالموازاة مع تجريب منهاج اللغة العربية بدعم من الوكالة الامريكية للتعاون الدولي، كان تجريب منهاج الرياضيات بدعم من الوكالة اليابانية. وفي سنة 2016، وبتوجيهات ملكية تم إعداد منهاج جديد للتربية الإسلامية من السنة الأولى ابتدائي إلى الثانية باكالوريا (يتم الآن تجاوزه في مؤسسات الريادة). كان ذلك في عهد السيد بلمختار. وفي عهد السيد حصاد تم تعميم الطريقة المقطعية لتدريس القراءة بعد نجاح تجربتها. أما في عهد السيد أمزازي فقد تمت مراجعة مناهج جميع المواد الدراسية بالتعليم الابتدائي ليتوج عمل هؤلاء الوزراء الثلاثة بوثيقة “المناهج الدراسية للتعليم الابتدائي يوليوز 2021”.
(ثلاث وزراء ساهموا في منهاج 2021، ثم جاء وزير بدون خلفية تربوية ينسف هذه المكتسبات)
2.1 حكم مشروع مدارس الريادة:
– بما أن وزارة التربية الوطنية لم تحترم القانون الإطار سواء على مستوى المبادئ (الإنصاف وتكافؤ الفرص والمساواة وعدم التمييز) أو مستوى الاختصاصات (اعتداء على اختصاص اللجنة الدائمة)؛
– وحيث أن وزير التربية الوطنية السيد بنموسى لم يعر أي اهتمام لمجهودات وزراء سابقين والتي توجت بمنهاج يوليوز 2021، فمسح الطاولة وكأن الإصلاح بدأ في عهده؛ بل خلق ارتباكا جديدا في الساحة التعليمية وشكوكا في إرادة الإصلاح (عرقلة كل إصلاح قبل أن يتم دورته)؛
– وحيث أن مشروع المدرسة الرائدة تم إعداده خارج البنية الإدارية المختصة “مديرية المناهج” وسهر على تنزيله ديوان السيد بنموسى وفريق من المفتشين الموالين له في سابقة خطيرة من نوعها في تاريخ المنظومة التربوية حيث تحولت وظيفة الديوان من تقديم المشورة للوزير إلى التخطيط والتدبير في القضايا البيداغوجية (لم يوطن المشروع – ولو شكليا- في مديرية المناهج إلا بعد تغيير المدير)؛
فإن مشروع المدرسة الرائدة الذي أعد خارج القانون الإطار، وخارج البنية الإدارية المختصة فاقد للمشروعية. فهو مثل الملفات القضائية التي يتم حفظها أو رفضها القاضي لوجود عيب في الشكل.
ملحوظة لها علاقة بما سبق: ماذا لو؟
لو تم تشكيل اللجنة الدائمة أولا في بداية ولاية حكومة السيد أخنوش، وفي انتظار أشغالها تسهر الوزارة على التكوين في منهاج يوليوز 2021، ومواكبة تنزيله في الفصول الدراسية، وتعمل على تأهيل الفضاءات التربوية حسب الحاجة، وتدعم التعليم في الوسط القروي بتوفير النقل المدرسي وبناء الداخليات ودور الطالبات، وتوفير الأطر الإدارية والتربوية لسد الخصاص الهائل. أما اللجنة الدائمة فتقوم بإعداد الإطار المرجعي للمناهج والدلائل المرجعية للبرامج في غضون 3 سنوات، وتعرض عملها على المجلس الأعلى للتربية والتكوين لإبداء الرأي، ثم تعرض عملها المنقح على اللجنة الوطنية لمواكبة إصلاح التعليم للمصادقة، وفي الأخير تعد مديرية المناهج وثيقة المنهاج الدراسي لتختم دورة المنهاج بتأليف الكتب المدرسية. مدة هذه العملية قد تصل إلى ما بين 5 و6 سنوات، وهي مدة كافية للوقوف على نواقص منهاج معين ومراجعته (النموذج الأمريكي). هذه هي الدورة السليمة التي رسمها قانون الإطار، والذي تم خرقه في إشارة سلبية للرأي العام التربوي.
لو تم ذلك، لتجاوزنا سياسة الاستعجال والارتجال، ولضمنا الاستقرار البيداغوجي، ولغرسنا الثقة لدى الفاعل التربوي في الإصلاح ومنهجيته، ولقضينا على مزاجية السياسيين الذين يتعاقبون على وزارة التربية الوطنية.
الحمري محمد فاعل تربوي وسياسي ونقابي

مشاركة هذه المقالة
لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *