بقلم الراحل محمد الدهاننزولا عند رغبة العديد من القراء، وبالخصوص طلبة علم الإجتماع ،الجدد والقدامى، سأتابع نشر مقالات حول مواضيع تهم السوسيولوجيا بمختلف تخصصاتها. وبعد سلسلة المقالات التي خصصتها لموضوع الحركات الإجتماعية ، سأحاول ابتداء من هذا المقال التذكير بالمحطات الأساسية لتطور علم الإجتماع الحضري.
مدرسة شيكاغوليس من الغريب أن يقترن ظهور السوسيولوجيا في الولايات المتحدة، بالتحولات العميقة التي عرفتها البنية الحضرية نتيجة تسارع وتيرة التصنيع، والهجرة الأوروبية المكثفة، في اتجاه المدن الأميريكية، منذ مطلع القرن التاسع عشر. وقبل ذلك، ظهر علم الاجتماع في أوروبا، نتيجة الثورات التي عرفها العالم القديم، بعد انتقال المجتمع من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي، وما صاحب ذلك من تغييرات ما كان من الممكن فهمها دون مقاربة جديدة، يتم فيها توظيف مفاهيم ومناهج ملائمة لفهم التحولات الجديدة والمتسرعة.
بنت السوسيولوجيا الحراك الاجتماعي، وليس من الغريب أن تظهر في شكلها الحضري في الولايات المتحدة مع نهاية القرن التاسع عشر. وقد قال في هذا الصدد الباحث Everett C .Hugues (1897-1983) “لقد كانت السوسيولوجيا حركة اجتماعية قبل أن تتحول إلى تخصص جامعي”.
إن توافد مهاجرين جدد من مختلف الجنسيات، يتحدثون لغات مختلفة، وينتمون لثقافات متعددة وأحيانا متباينة، قد عمق من الاختلالات التي بدأت تعيشها المدن الأميريكية في تلك الفترة، والتي كانت تشبه إلى حد كبير ما تعرفه اليوم مدن الجنوب: ارتفاع جيوب الفقر وتنامي البناء العشوائي، وانحراف الأحداث وظهور والجريمة المنظمة، تنامي العنف الحضري بكل أشكاله، وارتفاع نسبة المهمشين وتعاطي البغاء والإدمان على المخدرات، انتشار الأمراض العقلية والأوبئة في الأحياء المهمشة…بالإضافة إلى ذلك تولدت صراعات عرقية بين المهاجرين الجدد والقدامى، وارتفعت حدة الميز العنصري ضد الزنوج الوافدين من جنوب الولايات المتحدة. ولا غرابة إذن أن ينكب علماء الاجتماع على دراسة هذه المواضيع بالضبط مع التركيز على بعدها الحضري.والجدير بالذكر أن السوسيولوجيا الأميريكية في هذه المرحلة، ارتبطت بالحركات الاجتماعية المتنامية، والحركات الإصلاحية التي كانت تضم بعض العناصر من النخبة الاقتصادية، والطبقات المتوسطة والمثقفين، وبوجه خاص أساتذة علم الاجتماع. وليس من الغريب أن تكون أول شعبة في علم الاجتماع في جامعة شيكاغو الحديثة العهد (1892 ) تضم أساسا باحثين متخصصين في السوسيولوجيا…
لقد مثلت مدينة شيكاغو مختبرا حقيقيا بالنسبة إلى علماء الاجتماع ما بين 1900 و1930، حيث استأنس جلهم بخصوصيات البحث الميداني، وجربوا أدواتهم ومناهجهم العلمية، من خلال المحاولة والخطأ في بداية الأمر قبل التوصل إلى نتائج أكثر دقة من خلال استعمال المناهج الكمية والكيفية، كالمقابلة والاستمارة والتحليل الإحصائي، وإنجاز خرائط لربط توزيع الظواهر المدروسة بالمجال الحضري.
وقد استطاع الباحثون الأوائل تحقيق تراكم معرفي في زمن قصير نسبيا كما يشهد على ذلك عدد الأبحاث والأطروحات والمقالات العلمية التي نشرها أقطاب هذه المدرسة إلى حدود 1930.لا يسعنا في هذا المقال، أن نقف على كل القضايا والمواضيع التي درسها أقطاب هذه المدرسة، والإشكاليات العلمية التي تطرحها مقاربتهم للظاهرة الحضرية. لهذا سنحاول فقط، التعريف ببعض الباحثين وأعمالهم، تعميما للفائدة مع إحالة القارئ إلى النصوص التي يتوجب الرجوع إليها.المؤسسون:وليام إزاك توماس William Isaac Thomas ( (1863-1947يعد وليان إزاك توماس من الجيل الأول من الباحثين، المنتمين إلى مدرسة شيكاغو، حيث التحق بالجامعة كأستاذ مساعد منذ سنة 1897 ، ثم أستاذا مشاركا في سنة 1900 وأستاذا من 1910 إلى 1918..وقد جاء إلى السوسيولوجيا عن طريق الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي، حيث سبق أن درس هذه المواد في جامعة برلين وتأثر بالمناخ الفكري السائد آنذاك في الجامعة الألمانية مثله مثل Ezra Park الذي ينتمي أيضا لجيل المؤسسين.
وقد تأثر خلال سنوات تكوينه بمؤلف Herbert Spencer “مبادئ في علم الاجتماع” الذي قرأه حين كان طالبا وحدد توجهاته المعرفية لاحقا. وتظهر النزعة النفسية الاجتماعية في أعماله الأولى التي تناول فيها قضايا تهم النوع والاختلافات الجنسية، ومدى تأثيرها في السلوك، مثل أطروحته لنيل الدكتوراه التي تحمل عنوان Difference in the metabolism of the sexes(1896) ومؤلفه الأساسي الجنس والمجتمع (1907).ولعل هذا التوجه النفسي الاجتماعي، هو الذي سيدفعه لاحقا لاستعمال المنهجية المعتمدة على السيرة الذاتية، وقراءة الوثائق والمراسلات الشخصية، كوسيلة لاستخراج المعلومة والحصول على معطيات أساسية وموثوقة. وقد استعمل هذه المنهجية بنجاح في البجث الواسع الذي أشرف على إنجازه حول المهاجرين ذوي الأصول البولندية بمساعدة فلوريان زانانيكي Florian Witold Znaniecki والذي نشره تحت عنوان “الفلاح البولندي”.
ويعتبر هذا البحث الذي قامت بتمويله مؤسسة خاصة Helen Culver Fund أول بحث ميداني جدي في السوسيولوجيا الأميريكية. يمكن إجمال المنهجية المستعملة في هذا البحث في العناصر التالية:
1-الوقوف على الطريقة التي يتم من خلالها إدراك الأفراد للأوضاع التي يتواجدون فيها، وكيف يفهمون هذه الأوضاع.
وقد صاغ W. Thomas في هذا السياق المبدأ السوسيولوجي المشهور:
إن كل وضعية يعتبرها الفرد موجودة تكون موجودة فعلا في امتداداتها. بعبارة أخرى إن تصوراتنا حول الواقع تؤثر في سلوكنا وطريقتنا في البحث عن حلول للمشاكل التي نواجهها حتى لو كان إدراكنا خاطئا للأوضاع التي نعيشها.
2- الباحث السوسيولوجي يحتاج في نفس الوقت لدراسة الوقائع الاجتماعية، والقيم والقواعد الخارجة عن الأفراد بالمعنى الدوركايمي، ويدرس في نفس الوقت السلوك الشخصي المقابل لهذه القيم، والقواعد والوقائع الاجتماعية.
3- استعمال التقنيات الكيفية في البحث السوسيولوجي المعتمدة على تقنية المقابلة المعمقة، ودراسة السيرة الذاتية، من خلال السرد البيوغرافي، وقراءة المراسلات، ودراسة الوثائق الإدارية، واعتماد الإحصائيات الاجتماعية، مع التركيز على حالات خاصة عوض الاهتماع ببنيات عامة ومجردة.
وقد طبق الباحث بنجاح هذه المنهجية، في دراسة عدد من المواضيع من بينها وضعية المرأة والعلاقة بين الجماعات العرقية، وموضوع الجريمة وظاهرة الفوضى الاجتماعية.والجدير بالذكر أن W.Thomas سبق أن أشرف على إدارة المجلة المشهورةAmerican Journal of Sociology كما تم تعيينه سنة 1927 رئيسا شرفيا للجمعية الأميريكية لعلم الاجتماع.
*محمد الدهان من أبرز السوسيولوجيين المغاربة، توفي سنة 2013 وقد
المصدر: مدونة الأستاذ الدهان


